مدينة الرملة
أنشئت مدينة الرملة في أواخر القرن الأول الهجري من قبل سليمان بن عبد الملك، عندما كان أميراً لجند فلسطين في خلافة أخيه الوليد بن عبد الملك، وكانت بذلك المدينة الخامسة المستحدثة في الإسلام بعد الكوفة والبصرة والفسطاط والقيروان، والأولى في بلاد الشام، وأخذت اسمها من طبيعة تربتها الرملية. اتخذها سليمان عاصمة لجند فلسطين وبويع بالخلافة فيها عام (98ه)، وبقيت حاضرة فلسطين ومدينتها الأولى لأربعة قرون تالية: فقد بقيت عاصمة لفلسطين في عهد الدولة الأموية والدولة العباسية وما عاصرها من الحكم الطولوني والإخشيدي والفاطمي والسلجوقي إلى أن احتلها الصليبيون عام (1099م/492هـ) إبان الحكم الفاطمي للمدينة أيام الخليفة الفاطمي أبي القاسم أحمد المستغني بالله، وكان يتبعها آنذاك بيت المقدس ونابلس وقيسارية وغزة والخليل والنقب وأيلة وأريحا وعمان. باشر سليمان بن عبد الملك ببناء المسجد الجامع – الذي سمي الجامع الأبيض – مع إنشائه للمدينة، ولكنه توفي قبل أن يكمله، وأكمله من بعده الخليفة عمر بن عبد العزيز. ولما تولى الخلافة هشام بن عبد الملك أمر ببناء المئذنة – وكانت تلك هي المئذنة الأولى للمسجد – لكنها تهدمت بفعل الزلازل وعوامل الزمن، فأقام الثانية الظاهر بيبرس عام (1268م/666هـ) بعد تحريره للمدينة من الصليبيين وأما الثالثة – وهي الحالية – فقد أقامها الملك الناصر محمد بن قلاوون عام (1318م/718هـ).
كان لمدينة الرملة مكانة خاصة عند خلفاء بني أمية وبني العباس. فمنذ أن أقام فيها سليمان بن عبد الملك وأبناؤه من بعده، نشأت علاقة حميمة بين أهل الرملة وبينهم تجلت في تنصيبهم يزيد بن سليمان بن عبد الملك خليفة عليها أثناء ثورتهم على الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك عام (126هــ) وذلك لما كانوا يكنون له ولأبيه من قبله من محبة وتقدير. وفي زمن الخليفة هارون الرشيد أقامت أمه الخيزران "بركة العنزية" في الرملة عام (789م) – وسميت بركة الخيزران أيضاً – وهي الأثر العباسي الوحيد في بلاد الشام. كما أمر الخليفة العباسي المعتصم بتخصيص ميزانية للإنفاق منها على مرافق مدينة الرملة وصيانة مؤسساتها العمرانية.
كانت الرملة بحكم موقعها وظروف نشأتها مركزاً إدارياً وعسكرياً رئيسياً لجند فلسطين ومحوراً لكثير من الأحداث التاريخية والنشاطات السياسية الهامة، كما كانت مركزاً فاعلاً للنشاط التجاري والاقتصادي في المنطقة، بالإضافة للنشاط المتزايد للحركة العلمية بحيث أصبحت موئلاً لكثير من العلماء والأئمة والشيوخ وطلاب العلم. وكثرت فيها المدارس والأربطة والزوايا والمساجد. واشتهر فيها كثير من الأئمة والقضاة والعلماء في شتى فروع المعرفة، وانتسب إليها كثير من أولئك العلماء اللذين انساحوا في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وقد أضيف إلى إسمهم لقب "الرملي" عرفاناً بفضل المدينة وافتخاراً بالإنتساب إليها.
أعلام من الرملة :
أحصت كتب التاريخ والسير والتراث مئات من العلماء والأئمة والقضاة والمحدثين ورجال الفكر والسياسة والحكم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر :
- الصحابي المجاهد ابن عم الرسول – صلى الله عليه وسلم – الفضل بن العباس : توفي عام (18هــ) ودفن في الرملة. وأقام عليه الأمير شاهين الكمالي مقاماً ومسجداً جامعاً عام (854هــ).
- الصحابي الجليل عبادة بن الصامت : أول قاضٍ في فلسطين وكان مقره في الرملة وتوفي فيها عام (34هــ). وهو أحد نقباء الأنصار.
- مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثوبان : أقام في الرملة ولا عقب له.
- الإمام المحدث أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي : صاحب سنن النسائي أقام في الرملة وكان يحدث في مسجدها، توفي فيها عام (303هــ) وقبره بجوار الجدار الشرقي للجامع الأبيض.
- القائد العربي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة : استجار بسليمان بن عبد الملك من الحجاج أيام خلافة أخيه الوليد فأجاره. أقام في الرملة وتوفي فيها عام (98هــ).
- الأمير زيادة الله الأغلبي : من أمراء القيروان. هاجر إلى الرملة هرباً من عبد الله المهدي أول خلفاء الفاطميين في تونس، وتوفي فيها عام (314هــ).
- القائد العربي عبد الله بن سعد بن أبي سرح : فاتح إفريقيا وقائد المسلمين في معركة ذات الصواري البحرية. كان بطلاً شجاعاً ومجاهداً عظيماً. جعله عثمان بن عفان والياً على مصر وأقام فيها سنتين. ولما وقعت الفتنة زمن عثمان بن عفان اعتزل الفتنة وترك الحكم والولاية وأقام في الرملة حتى توفي فيها.
- أبو شجاع فاتك الرومي الأخشيدي الملقب بالمجنون : تعلم الخط العربي وبرع فيه، وأخذ يعلمه في الرملة وكان رفيقاً لكافور الأخشيدي الذي أصبح حاكماً لمصر. كان شجاعاً فصيحاً وذا فطنة وذكاء. انتقل إلى مصر وأصبح هناك ذا مال ونفوذ وجاه. مدحه أبو الطيب المتنبي بقصيدة مطلعها :
لا خيلَ عندك تُهديها ولا مالُ فليُسْعِدِ النُطقُ إنْ لم يُسعدِ الحالُ
- كشاجم الرملي : فارسي الأصل، وكان رئيساً في الكتابة ومقدماً في الفصاحة والخطابة. كما كان شاعراً مجيداً. أقام في الرملة وتوفي فيها عام (360هــ).
- المحدث الزاهد الشيخ أبو عبد الله محمد البطائحي : اشتهر بالصلاح والتقوى. أقام في الرملة وتوفي فيها عام (357هــ)، له مقام مشهود في حارة الباشوية.
- أبو عبد الله ضمرة بن ربيعة القرشي الرملي : محدث وفقيه اشتهر بالصلاح والتقوى، سمع من أجلّة العلماء منهم إبراهيم بن أبي عبلة والأوزاعي والثوري وابن عطاء وغيرهم. أقام في الرملة وتوفي فيها عام (202هــ).
- الطبيب الصيدلي محمد بن أحمد بن سعيد التميمي : عاصر والي الرملة عبيد الله بن طغج الإخشيدي واتصل به. كان حاذقاً بتركيب الأدوية من النباتات. أبرَزَ الأثر النفسي في الأمراض.
- عبد الرحمن بن صديق : من أهل الرملة، أنشأ مسجداً في حارة السرايا وتوفي فيها عام (501هــ).
- الشيخ محمود العدوي : من الصالحين والزهاد، مقامه بحارة السرايا. أقام في الرملة في القرن السابع الهجري وتوفي فيها. جاء من بعده ابنه أحمد بن محمود العدوي وهو خطيب مشهور.
- الزاهدة الصالحة آمنة الرملية : أقامت في الرملة في القرن الثالث الهجري وتوفيت فيها.
- المحدثة أم الخير فاطمة بنت عبد القادر بن طريف الرملية : أقامت في الرملة وتوفيت فيها عام (860هــ).
- الموفق شهاب الدين أحمد بن أرسلان الرملي : محدث وفقيه وعالِم من الصالحين. ولد في الرملة وأقام وتوفي فيها عام (844هــ)، بنى في الرملة مسجداً وسمي "جامع رسلان". كما عمّر برجاً على البحر في يافا وأقام مشهد النبي روبين.
- أحمد بن شادي من أهل الرملة، أنشأ زاوية عمران في حارة الباشاوية عام (758هــ).
- الشيخ أبو العون محمد بن محمد الغزي القادري الفاروقي : من شيوخ القادرية، وله معرفة بالطب ونَظْم الشعر، توفي في الرملة عام (910هــ) وضريحه في مقبرة آل الفاروقي وتنتسب إليه عائلة التاجي الفاروقي المعروفة في الرملة.
- أبو العباس الأشموني : من الصالحين الزهاد من أهل الرملة وضريحه في سوق الفاكهي، توفي عام (815هــ/1415م).
- الشيخ خير الدين أحمد الرملي : ولد في الرملة عام (993هــ) وتوفي فيها عام (1081هــ) وضريحه في مقبرة آل الخيري بحارة الباشوية. إمام ومحدث وفقيه ولغوي وشاعر، جاء من بعده ابنه محي الدين بن خير الدين الرملي الذي قام بجمع فتاوى والده المسماة "الفتاوى الخيرية"، وتنتسب إليه عائلة الخيري المعروفة في الرملة.
- مكي بن عبد السلام الرملي : من العلماء والقضاة المشهورين. قتله الفرنجة الصليبيون عند احتلالهم لمدينة القدس عام (1104م) لأنه كان من كبار المجاهدين ضدهم.
- قاضي القضاة شمس الدين أبو زرعة محمد بن برهان الدين الزرعي الرملي : كان شيخ القراء في الرملة، توفي فيها عام (884هــ).
- أحمد بن أحمد بن زهير الرملي : مقرىء وشاعر وعالِم من أهل الرملة تولى مشيخة المسجد الأموي في دمشق عام (854هــ/1458م).
- حمد الرملي بن أحمد بن محمد : تولى إمامة الجامع الأموي في دمشق ومشيخة قرائه. توفي عام (923هــ/1527م).
نبذة تاريخية :
شهدت مدينة الرملة أحداثاً عظيمة وعاصرت كثيراً من الدول وحكمها العديد من الحكام والولاة. لكن تلك الدول قد زالت، ومضى أولئك الحكام إلى مواضعهم في التاريخ، وبقيت المدينة صامدة تروي قصتها مع أولئك وهؤلاء، وتستنطق الديار والآثار والطرقات والحارات سيرَهم وتروي لنا وللأجيال القادمة الوقائع والأحداث.
في العصر الأموي، وبعد ثلاثة عقود من إنشائها كانت الرملة مركزاً لإنتفاضة شعبية على الخليفة الوليد الثاني بن يزيد بن عبد الملك عام (126هــ) احتجاجاً على فساده واستهتاره. وشاركهم فيها أهالي جند الأردن(1) فسميت "ثورة فلسطين والأردن"، كما قاموا بعدها بعام واحد بثورة أخرى بقيادة ثابت بن نعيم الجذامي عام (127هــ) على الخليفة الأموي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وكانت تلك الثورة في الحقيقة احتجاجاً على ضعف الخلفاء المتأخرين من الحكم الأموي.
أما في العصر العباسي، فهناك الكثير من الانتفاضات والثورات، كانت في معظمها احتجاجاً على ضعف الخليفة وتطاول العناصر غير العربية عليه وسيطرتهم على الجيش ومقاليد الحكم. على سبيل المثال نذكر بعضاً منها :
- ثورة المبرقع اليماني – أو ثورة الفلاحين – قام بها أبو حرب اليماني الملقب بالمبرقع على الخليفة المعتصم عام (227هــ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جند الأردن كانت عاصمته طبريا وكان يتبعها حيفا وعكا وصور والناصرة وصفد وغيرها
- ثورة عيسى بن شيخ : كان عيسى بن شيخ والياً على الرملة من قِبل الخليفة العباسي في بغداد، لكنه أعلن الثورة لضعف الخليفة وسيطرة الأتراك عليه عام (252هــ).
- ثورة محمد بن الخليج عام (292هــ) : كان محمد بن الخليج أحد ضباط الجيش العباسي. استقر في الرملة، وكانت حركته بمثابة ثورة على ضعف الخليفة وسيطرة العناصر غير العربية عليه.
- قامت في الرملة إمارة شبه مستقلة أيام الحكم الفاطمي هي "الإمارة الطائية" على يد مؤسسها المفرج بن دغفل بن الجراح الطائي، دامت حوالي خمسين عاماً من عام (368هــ - 420هــ) شهدت الرملة خلالها قيام خلافة علوية حسنية عام (401هــ) على أرضها مناوئة للحكم الفاطمي دامت ثلاث سنوات على يد الشريف الحسن بن جعفر المعروف بأبي الفتوح، وقد لقب بالراشد، وضربت النقود بإسمه في الرملة. وكان قيام هذه الخلافة العلوية بتشجيع ودعم حسان بن مفرج الطائي زعيم الإمارة الطائية وحاكم الرملة.
كان احتلال الفرنجة الصليبيين للرملة عام (492هــ/1099م) وما تلاه من حروب طاحنة نقطة تحول في تاريخها فأصبحت الرملة بعده تابعة لدولة بيت المقدس اللاتينية التي اتخذت من القدس عاصمة لها، من عام (492ه-583هــ). فقد تهدمت مبانيها وهجرها أهلها، وأفل نجمها العربي الإسلامي قرابة قرن ونصف حيث كانت مسرحاً لتحركات وحروب الجيوش الإسلامية والصليبية. وقد تحررت من الفرنجة الصليبيين في المرة الأولى بعد معركة حطين عام (583هــ/1187م) على يد صلاح الدين الأيوبي بعد أن حكمها الصليبيون (88) عاماً. ثم عادوا فسيطروا عليها لمدة (56) عاماً إلى أن تم تحريرها النهائي على يد الظاهر بيبرس عام (1266م) وطرد فلول الغزاة الدخلاء منها. ثم قام الظاهر بيبرس بإعادة تعمير المؤسسات العمرانية في المدينة مستهلاً ذلك بترميم الجامع الأبيض وإقامة مئذنة جديدة له.
بقيت بلاد الشام خاضعة للمماليك حتى عام (1516م) حين تغلب الأتراك العثمانيون عليهم بقيادة السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق. وسيطروا بعدها على بلاد الشام كلها. كما اجتاح نابليون بونابرت الساحل الفلسطيني بعد استيلائه على مصر في حملته على الشرق عام (1798م) واستولى على مدينة الرملة عام (1799م)، واستعمل منارة الجامع الأبيض مركزاً عسكرياً لمراقبة المنطقة. كما احتلها إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا حاكم مصر في حملته على بلاد الشام. ثم عادت للحكم العثماني الذي استمر أربعة قرون، إلى نهاية الحرب العالمية الأولى عام (1918م) حيث هزم الأتراك، لتقع فلسطين تحت نير الانتداب البريطاني المشئوم حسب معاهدة سايكس بيكو التي عقدت سراً بين بريطانيا وفرنسا عام (1916م)، والتي قضت بتمزيق بلاد الشام إلى أربعة أجزاء هي سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ورسمت الحدود السياسية بين هذه الأجزاء لتكريس التجزئة والتشرذم في جسم الأمة العربية ولإحباط مشروع الوحدة العربية المنشودة تمهيداً لتنفيذ مؤامرة غربية دنيئة تمثلت في إصدار وعد بلفور في (2/11/1917) من قبل حكومة بريطانيا استجابةً لضغوط اليهود بزعامة حاييم وايزمن. كان ذلك الوعد المشئوم على هيئة رسالة بعثها وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور إلى اللورد اليهودي روتشيلد تقول: "عزيزي اللورد روتشيلد، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي. وسوف تبذل كل مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية.." . ولتحقيق هذه المؤامرة استطاع اليهود من خلال نفوذهم في أمريكا أن يعملوا على إصدار قرار عصبة الأمم بإعطاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين في تموز (1922م). وقد قام اليهود بصياغة صك الانتداب – كما ورد في مذكرات وايزمان حيث يقول: "إن اليهودي الأمريكي بنيامين كوهين كان يتولى مع سكرتير اللورد كيرزون وزير خارجية بريطانيا وضع صك الانتداب والاتفاق على نصوصه". فجاءت نصوصه تبعاً لذلك ومكرسة لتنفيذ وعد بلفور بحذافيره وتأمين إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. فقد جاء في المادة الثانية منه: "تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن جعل البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تكفل إنشاء الوطن القومي اليهودي". كما ورد في مواد أخرى أن على سلطة الانتداب أن تسهل هجرة اليهود إلى فلسطين، وتعمل بالاتفاق مع الوكالة اليهودية على استقرارهم في الأراضي الأميرية والأراضي الموات.
بهذه الروح الاستعمارية الاستيطانية الخبيثة مارس الانتداب البريطاني سياسته المجرمة في فلسطين. إلا أن الشعب الفلسطيني قاوم تلك السياسة وهب مدافعاً عن أرضه وحقه وكرامته في ثورات متلاحقة، ودفع في سبيل ذلك قوافل من الشهداء، وتكبد كثيراً من المعاناة والتشريد والسجن والنفي ومصادرة الأراضي وإتلاف المحاصيل وهدم البيوت وتعطيل الصناعة والتجارة والدراسة. ومارست سلطات الانتداب أشد ألوان القمع والإرهاب وحشية وهمجية – وهم اللذين يتبجحون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما عن الرملة، وكذلك بقية مدن وقرى فلسطين – فقد انخرطت مختلف شرائح المجتمع في تنظيمات سياسية نضالية وطنية لمقاومة تلك السياسية ودفع الظلم والعدوان. والذود عن الوطن وأرضه وكرامة أهله.
بين الماضي والحاضر :
في مدينة الرملة كثير من المعالم التاريخية البارزة كما أن فيها منشآت حضارية حديثة نذكر منها:
1- الجامع الأبيض: بناه سليمان بن عبد الملك عام (96ه) كما مر بنا. وفيه منارة الجامع الأبيض والمشهورة بإسمها الشعبي "مئذنة النبي صالح". والتي طبعت صورتها على العملة الورقية الفلسطينية فئة الخمسة جنيهات والعشرة جنيهات والخمسين والمائة جنيه.
2- مقام الفضل بن العباس: وقد مر بنا ذكره.
3- أطلال قصر سليمان بن عبد الملك: أنشىء مع المدينة وبقيت منه بقايا بعض الجدران. وقد أقامت بلدية الرملة منتزه الرملة مكانه على طريق يافا – القدس.
4- بركة العنزية: المنشأة العباسية الوحيدة في بلاد الشام، أقامتها الخيزران أم الخليفة العباسي هارون الرشيد وزوجة الخليفة المهدي عام (789م) (كذلك سميت "بركة الخيزران" أيضاً.
كما يوجد في المدينة عدد من البرك المشابهة أنشئت في فترات زمنية مختلفة مثل بركة الجاموس وبركة بنت الكافر وبركة العياضة وبركة غرير وغيرها.
5- الجامع الكبير ويسمى الجامع العمري: يقع باقرب من منتزه الرملة وقد قام بعمارته الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد تحرير المدينة من الصليبيين، كما يوجد في المدينة مجموعة من المساجد القديمة والتاريخية مثل مسجد الشيخ رسلان، ومسجد المغاربة ومسجد القبيين ومسجد الزيتونة ومسجد حذيفة بن اليمان وغيرها.
6- يوجد في المدينة عدد من الأديرة والكنائس العريقة مثل دير اللاتين ودير الفرنسيسكان ودير الأرمن وكنيسة الأرثوذكس وكنيسة الأنجليكان.
7- كان فيها عدد من المدارس لجميع مراحل الدراسة مثل مدرسة المعارف الثانوية للذكور حيث كان فيها عام (1947) نحو (895) طالباً و(24) معلماً، وكانت تضم مكتبة فيها (4206) كتاباً، ومدرسة بنات الرملة التي كانت تضم (473) طالبة و(13) معلمة، وكان فيها مكتبة تحتوي (1120) كتاباً. بالإضافة لعدد من المدارس الخاصة مثل المدرسة العباسية أو "مدرسة الجمعية" والمدرسة الصلاحية، ومدرسة الإناث الوطنية ومدرسة الراهبات للبنات ومدرسة تراسانطة اللاتينية وغيرها.
8- كان فيها مستشفى في حارة السرايا، كما كان فيها مركز صحي على طريق يافا القدس بالإضافة لعدد من العيادات الخاصة.
9- كان فيها ثلاث صيدليات خاصة.
10- كان فيها عدد من محطات البنزين، وشركة للباصات ومحطات للركاب على طريق يافا – القدس.
11- كان فيها محطة لسكة الحديد.
12- كان فيها مركزان للبوليس، واحد على طريق يافا القدس وتقع بجواره سينما الأندلس، والآخر على طريق اللد الذي حوله اليهود إلى سجن الرملة بعد احتلالهم للمدينة، هذا بالإضافة للعديد من المنشآت الخاصة ومعالم النشاط الإنساني المختلفة.
13- كان فيها فرع لبنك الأمة.
حقائق وأرقام :
هذه المدينة العربية ذات الحضارة الممتدة والتاريخ الطويل لما يزيد على ثلاثة عشر قرناً، والتي تعتبر نموذجاً متكرراً من بقية مدن وقرى فلسطين، كانت تزخر بالحياة والناس والحضارة بمختلف وجوهها، وكان يقطنها عام (1948) زهاء (25000) نسمة وكانت مركزاً لقضاء الرملة الذي يضم (54) قرية وعدد سكانه زهاء (127270) نسمة ومساحته (926,7) كم2. كما كانت فلسطين التي تضم عشرات المدن والأقضية في مقدمة البلاد العربية علماً وحضارةً وتقدماً وكان يعمرها شعب حي صنع على أرضها التاريخ والحياة الكريمة وأقام فيها الصناعة والزراعة والتجارة ومختلف أنواع النشاط الإنساني.. هذه البلاد العامرة بأهلها وبنشاطاتهم.. وقد خرجت لتوها من قبضة الأتراك العثمانيين، تستعمرها بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى وتفرض عليها انتداباً بغيضاً تمهيداً لإقامة كيان صهيوني لقيط، وإقتلاع شعب مسالم من أرضه ووطنه والقذف به في دروب الضياع والشتات وتمكين فلول المهاجرين اليهود الغرباء مكانه.. ثم تنبري حفنة من مزوري التاريخ ومروجي الأباطيل الصهيونية وتدعي أن فلسطين حين جاءها الصهاينة اليهود كانت خالية من السكان، وأن أرضها كانت بوراً وأنها كانت تنتظرهم ليعمروها.
فهي – بإدعائهم- أرضهم المقدسة التي وعدها الله لأبناء يعقوب!!.. أكذوبة، وخرافة تستند إلى مرجعية توراتية تلمودية مغرقة في الخيال، وتتجاوز العقل السليم وتقفز على حقائق التاريخ. واستطاعت الصهيونية العالمية أن تجعل من العقل الغربي مطية لها يقبل بأكاذيبها ويدافع عنها.
نسي هؤلاء المزيفون ومن شاركهم في سرقة الوطن الفلسطيني أن أصحاب الحق لن ينسوه أبداً أو يتنازلوا عن جزء منه، وأنهم عقدوا العزم على مواصلة النضال من أجل التحرير والعودة، فالمعركة قادمة لا محالة، والنصر آت لا ريب فيه، وموازين القوى لن تبقى في صالح العدو المغتصب إلى الأبد، وصدق الشاعر العربي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بُــــــــــــد لليـــــــــــل أن ينجلي ولا بُـــــــد للقيـــــد أن ينكسر
تتمتع مدينة الرملة بطقس معتدل صيفاً وشتاءً فدرجات الحرارة تتراوح بين (8-518) في الشتاء و (22-532) في الصيف. ومعدل سقوط الأمطار مرتفع نسبياً حيث يبلغ (500 ملم) سنوياً ومعدل الرطوبة (71%)، هذا ويجري في قضاء الرملة نهر روبين، وهو نهر صغير ينبع من جبال القدس ويصب في البحر الأبيض المتوسط إلى الغرب من الرملة، وتتميز منطقة الرملة بغناها بالمياه الجوفية المشهورة بعذوبتها وقلة الأملاح فيها. كما تتميز بخصوبة تربتها. كل هذه العوامل أدت إلى إزدهار الزراعة في الرملة وقضائها مثل زراعة الحمضيات والزيتون والتين والعنب والرمان واللوزيات والحبوب بأنواعها والخضار المختلفة، والقطن وغيرها. وقد كانت تصدر بعض أنواع الزهور إلى أوروبا بالطائرة – قبل عام 1948- مثل الجلاديولا والأداليا من مطار اللد الدولي. كما ازدهرت التجارة والصناعة في الرملة. فقد كان فيها العديد من الشركات والمؤسسات التجارية والصناعية. وكان فيها بعض الصناعات المحلية الخفيفة مثل دباغة الجلود والمصنوعات الجلدية وصناعة الفخار، والصابون، والزجاج، ومعاصر الزيتون والسمسم وصناعة الحلاوة والطحينية وغيرها، بالإضافة لكثير من المحلات والورش الخاصة لمختلف الحرف. واشتهرت الرملة ببعض المأكولات والحلويات مثل القدرة الرملاوية والكنافة الرملاوية.
كان في الرملة بلدية منذ العهد التركي. وكان آخر رئيس للبلدية هو محمود علاء الدين وأما أطول الرؤساء مدة وأكثرهم أثراً في المدينة فكان الشيخ مصطفى الخيري الذي دامت رئاسته حوالي ثلاثين سنة – 1917 إلى 1947 – وكان في المدينة عدد من الأحزاب والنوادي نذكر منها : حزب الشباب الفلسطيني، جمعية الشبان المسلمين، مهعد الشباب الفلسطيني، جماعة الإخوان المسلمين، النادي الرياضي الإسلامي، النادي الأرثوذكسي، الحزب العربي وغيرها.
يحتفل الرمليون بمناسبات كثيرة منها بعض المواسم المحلية مثل موسم النبي صالح، وموسم النبي روبين، وخميس البيض ومنها بعض الأعياد والمناسبات الوطنية أو الدينية كعيدي الفطر والأضحى ورأس السنة الهجرية والمولد النبوي الشريف والإسراء والمعراج وغيرها. كما يشارك المسلمون إخوانهم المسيحيين أعيادهم مثل عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية وعيد الفصح وغيرها.
قبل الرحيل :
شاركت مدينة الرملة بقية مدن وقرى فلسطين في النضال الوطني ضد سياسة الاستيطان اليهودي المدعوم من قوات الانتداب البريطاني، كما شاركت من خلال أبنائها المناضلين الرواد في المؤتمرات واللقاءات المحلية والعربية والدولية. وقد كان أحد أبنائها "وهو الحاج يعقوب الغصين" من بين الزعماء الوطنيين اللذين نفتهم بريطانيا إلى جُزر سيشل. وعندما اشتد الصراع بين أبناء الوطن وبين المهاجرين اليهود ، انخرط أبناء الرملة مثل بقية إخوانهم في مدن وقرى فلسطين في الكفاح المسلح لصد العدوان اليهودي على الوطن الفلسطيني بعامة، ولدحر الهجمات اليهودية المتكررة على مدينتهم بخاصة، وأقاموا الاستحكامات والخنادق حول المدينة وتطوع الرجال لحمل السلاح، وتشكلت "اللجنة القومية" لتنظيم عملية الدفاع وتوفير السلاح والذخيرة من السادة : فايز التاجي ومصطفى الجمال وأمين أنشاصي وإسماعيل النحاس وسليمان مقبل ومحمود علاء الدين وزهدي سعسع وإبراهيم دحدله وإبراهيم أبو السعود، وكان فايز التاجي سكرتيراً لها.
صمدت مدينة الرملة وصدت جميع الهجمات اليهودية التي كانت تستهدف الإستيلاء عليها، وتفانى الرجال في الدفاع عن مدينتهم وكانوا مضرب المثل في الشجاعة والفداء على الرغم من ضعف الإمكانيات وقلة الذخيرة وتواضع السلاح. وسقط على ثراها كوكبة من الشهداء الأبرار، إلا أن المؤامرة كانت أكبر من طاقتهم بل كانت أكبر من إمكانات الشعب الفلسطيني، خاصة بعد إنتهاء الهدنة الأولى في (11/6/1948)، فأخذت تسقط مدن فلسطين وقراها الواحدة تلو الأخرى في قبضة اليهود، وأخذ الذعر والفوضى يدبان بين جموع الفلسطينيين.
كانت مدينتا الرملة واللد – المدينتان التوأمان – آخر الحصون التي سقطت في الساحل الفلسطيني الأوسط بعد مقاومة عنيفة وصمود مشرف. فاستولى اليهود على الرملة بعد إستيلائهم على مدينة اللد بيوم واحد، وذلك يوم الاثنين (12/7/1948). دخل جنود العصابات اليهودية المدينة وكانوا متعطشين للإنتقام من أهلها اللذين قاوموهم ببسالة فاستعصت مدينتهم عليهم. كان يملأ قلوبهم الحقد وتدفعهم الرغبة في النهب والسلب والغنيمة. فعاثوا في المدينة فساداً، أخذوا ينهبون الدكاكين والمحلات، ويفتشون البيوت بحثاً عن المال والذهب. نشروا الرعب في المدينة، وكانوا همجاً لا تضبطهم قيم ولا تردعهم أخلاق، مجردين من معاني الحضارة والإنسانية، كانوا يقتلون من يشاءون ويأخذون ما يريدون. كل ذلك حتى يجبروا الناس على مغادرة المدينة. وقد كان لهم ذلك، خاصة بعد أن أخذوا الآلاف من رجالها أسرى، فاضطر أهل المدينة على مغادرتها حفاظاً على الأرواح والأعراض، وأكملوا رحلتهم مشياً على الأقدام ليبدأوا رحلة الشتات والعذاب.
لكن أجيال النكبة ...، أجيال الصمود والفداء أقسمت أنها ستواصل النضال والكفاح جيلاً بعد جيل حتى يعود الوطن السليب إلى أهله، مهما طال الزمن ومهما بلغت التضحيات.
إشترك الآن ب